في بيئات العمل السريعة، أصبحت الصحة النفسية قضية مركزية لكل من أصحاب العمل والموظفين؛ فقد يكون مكان العمل مصدرًا للضغط النفسي، أو على العكس قد يكون مساحة واقية تعزز الرفاهية.
فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن الاكتئاب والقلق يكلف الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار سنويًّا من فقدان الإنتاجية. ومع ذلك، لا تزال الصحة النفسية موضع تجاهل من المنظمات ومؤسسات العمل المختلفة. وهذا ما يدفعنا دفعًا إلى التوعية الجيدة بالصحة النفسية في مكان العمل، وإستراتيجيات الوقاية، والمسؤوليات الحيوية للمنظمات.
1. المشهد النفسي في مكان العمل
تتسم بيئات العمل الحديثة بمتطلبات عالية، وضغوط زمنية، وانعدام الأمان الوظيفي. وهذه التحديات -دون شك- تسهم في الإرهاق والضيق النفسي، فإنها غالبًا ما تُعد "جزءًا من الوظيفة".
وجدت دراسة نُشرت في مجلة علم النفس الصحي المهني علاقةً مباشرة بين المتطلبات العالية للعمل، وانخفاض الاستقلالية، وزيادة خطر ظهور أعراض الاكتئاب (باكر وديميروتي، 2007). تعزز هذه المخاطرَ بعضُ العوامل، مثل التنمر في مكان العمل، والتمييز، وسوء التوازن بين العمل والحياة.
2. الوعي بالصحة النفسية والتدخل المبكر
الوعي هو الخطوة الأولى للتعرف إلى العلامات المبكرة لمشكلات الصحة النفسية. غالبًا ما يفتقر الموظفون والمديرون إلى التدريب اللازم لتحديد أعراض الحالات الشائعة مثل القلق، والاكتئاب، أو والإرهاق.
والتدخل المبكر هو المفتاح؛ إذ تُبرز أبحاث ديوَا وآخرون (2007) أن التأخير في علاج المشكلات النفسية المتعلقة بالعمل يؤدي إلى غيابات أطول وزيادة في الخلل الوظيفي. ومن ثم يمكن أن تشمل برامج الوعي:
• ورش عمل ومؤتمرات عبر الإنترنت.
• تدريب على معرفة الصحة النفسية.
• أنظمة دعم الأقران.
3. دور القيادة في ثقافة الصحة النفسية
لا شك أن للقيادة دورًا محوريًّا في تشكيل بيئة نفسية آمنة؛ فالمديرون المدرَّبون على الذكاء العاطفي والوعي بالصحة النفسية يكونون أكثر قدرة على دعم أعضاء الفريق الذين يواجهون الضيق والسأم ونحو ذلك.
ترتبط أنماط القيادة التحويلية، التي تتميز بالتعاطف والتواصل والدعم، بنتائج صحية نفسية أفضل للموظفين؛ فالقادة الذين يعززون الانفتاح ويخلقون حوارات ومحادثات عن الصحة النفسية، دون إشعار بالوصمة، هم أقدَرُ على خلق بيئة نفسية سوية وصحية.
4. التدخلات التنظيمية والممارسات الفضلى
تتجاوز برامج الصحة النفسية الفعالة في مكان العمل الحملات التوعوية، فهي تدمج التغييرات النظامية في بيئة العمل، والسياسات، والثقافة. وتشمل أفضل الممارسات:
• الوصول إلى برامج مساعدة الموظفين (EAPs).
• ترتيبات العمل المرنة.
• إدارة عبء العمل والجدولة العادلة.
• خدمات استشارة سرية في الموقع أو افتراضية.
• سياسات لمكافحة التنمر والتمييز.
وفي هذا الشأن، تقدم إرشادات ISO 45003:2021 لإدارة الصحة النفسية والسلامة في العمل إطارًا شاملًا لمعالجة مخاطر الصحة النفسية بطرق استباقية.
5. قياس نتائج الصحة النفسية في مكان العمل
يجب على المنظمات تقييم فعالية مبادراتها في الصحة النفسية. وقد تشمل مؤشرات الأداء الرئيسة (KPIs):
• معدلات الغياب والحضور.
• استبيانات رضا الموظفين.
• استخدام خدمات الدعم.
• مقاييس الدوران والاحتفاظ بالموظفين.
وفي هذا، يمكن أن توفر بعض الأدوات، مثل مؤشر الرفاهية WHO-5 أو استبيان الصحة العامة (GHQ-12) ، تقييمات معيارية للصحة النفسية.
خاتمة
إن الصحة النفسية في مكان العمل ليست ترفًا، بل ضرورة. والوعي وحده غير كافٍ دون المساءلة التنظيمية والتزام التغيير الفعال. ومن خلال دمج الصحة النفسية في أولويات الشركات وفي إعداداتها التنظيمية، يمكن للشركات تعزيز فرق عمل مرنة، ومشارِكة، وصحية؛ ولا شك أن ذلك سينعكس إيجابًا على كفاءة العمل وجودة الإنتاجية.